18 Apr
18Apr

ما الذي يترتب على قيامة المسيحي مع المسيح؟

3: 1 - 2 لأن المسيحيين قاموا مع المسيح، فهم الآن يجب أن يكونوا هم أنفسهم عربون الدهر الآتي، وحياتهم يجب أن تكون مختلفة عما كانت قبل الإيمان.  فحياتهم الجديدة ليست ملكًا خاصًا شوإنما هي حياة المسيح، وبالتالي يجب أن تكون اهتماماتهم هي اهتماماته. ولكن، بما أن الدهر الحالي لم ينحل تمامًا بعد والدهر الآتي لم يكتمل استعلانه بعد، ففي هذه المرحلة المتوسطة المتداخلة بين الدهرين، يؤكد بولس أن الحياة الجديدة ذات بُعدٍ مستقبليٍّ، هي فاعلة الآن ولكنها مستترة مع المسيح المستتر، وستستعلن مع المسيح حين يأتي ثانيةً في مجد كثيف. فمع أن بولس يستخدم صيغة الأمر ليحث الكولوسيين على الاستمرار في السَّعي ζητεῖτε في طلب ما فوق، ما للمسيح، إلا أنه لا يفترض أنهم كاملون بعد، ولا يفترض أن هذا السعي سيحدث تلقائيًّا من دون مجهود مبذول من الشخص لأجل تغيير وجهة مسعاه في الحياة، وإلا ما احتاج بولس أن يحثهم. فالتوصية في حد ذاتها تدل على أهمية المحاولة الإرادية المستمرة لتبنّي وجهة نظر سماوية في الحياة اليومية، ولتطويع كل الكيان وتكييفه مع هذا المنظور الجديد الذي، وإن لم يصل بعد ليكون تحوُّلاً أنطولوجيًّا كاملاً، إلا أنه يُحدث نوعًا من التحوُّل في الحياة، ويضفي صبغةً لكل حياته، ويشغل كل وقته، ويحدد أولوياته، ويبيت مصدر إلهامه وحماسه وقراراته وتطبيقاته المستمرة مهما ناوشته وقاومته الظروف. ولكنّ الإنجيل الذي يقدمه بولس هنا يؤكد أن التحوُّل والتغيير الجذري الحادث في حياة المسيحيين ليس نتاج سعيهم الدؤوب فحسب، ولكنه تمكين إلهي ليس ممكنًا سوى من خلال النعمة. لم يحدد بولس ماهية ما فوق الذي يجب أن يكون مسعى ومطلب المسيحي، ولكنه حدد التوجه الذي يجب أن تتوجه كل الحياة ناحيته. 

لم يستخدم بولس الأمر في الفعل ζητεῖτε فقط أي اسعوا واطلبوا، ولكنه أيضًا أضاف الفعل اهتموا φρονεῖτε (واهتموا هنا تأتي بمعنى: ليكن لكم طريقة مستقرة في فهم كل شيء، أو تمسكوا برأي ما أو حافظوا على سلوكٍ ما)، والتي جميعها، السعي والطلب والاهتمام، قد تكون من مفردات الهراطقة الذين يحثون الناس على السعي والطلب والاهتمام بأشياء أُخرى مثل الحرمان الجسدي للوصول للرؤى وعبادة الملائكة، وغالبًا هذا ما يسميه بولس ”الاهتمام بما على الأرض“. إن الاهتمام من الأفعال التي لا تعبّر فقط على نشاط عقلاني، ولكن أيضًا عن نشاط الإرادة الحرّة، فالإنسان لا يمكنه أن يهتمّ إلا إن قصد أن يهتم، لأن الاهتمام ينبع من الطموح ومن الميل، وحتى زمن المضارعة في الأمرين في حد ذاته يقر بأن تنفيذ الأمرين يتطلب مجهودًا مستمرًا أو تيقظًا وانتباهًا مستمرًّا للمنظور الجديد الذي يضبط بؤرة تركيزه على حيثما يجلس المسيح،  بدلاً من البدائل الأخرى من توجُّهات أرضية لا تطمح لأكثر من إشباع الشهية الجسدية والمكانة الاجتماعية، تلك التي مهما توارت وراء عبارات رنانة وعاطفة روحية مهتاجة، مثل الهرطقة الكولوسية الفلسفية التي في ادّعائها بالمشاركة في العبادة السماوية الملائكية هي في الواقع حبيسة منظور أرضي بحت (كو 2: 20 - 23). على هؤلاء يحتج بولس. هو لا ينادي بالتخلّي عن المنظور السماوي جملةً وتفصيلاً، ولكن على النقيض، هو ينادي بتبنِّي منظور سماوي عن حق، يثمر في أصحابه حياةً أقل ارتباطًا بالأرضيات. ومفتاح هذا المنظور الحق هو الاعتراف والإقرار بالتحوّل الجذري الذي حصل في مجرى سريان الوجود البشري بفعل حدث المسيح، بتجسده وموته وقيامته. محورية المسيح في منظور المؤمنين هو ما يفرق بين روحانياتهم وأي روحانية أخرى. 

أي فوق يقصد بولس؟

3: 1 - 2 أضاف بولس وصفًا يحدد به أي فوق يقصد، فهو لا يدعو للتفوق أو الفوقانية أو التسامي والترفُّع أو الارتقاء الروحي، كما يدعو الهراطقة، ولكنه يوضّح أنه بكلمة فوق يقصد ”حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِيْنِ اللهِ“. فهو يشاور على دائرة الوجود في المسيح المقام، ولهذا السبب وحده يحث المؤمنين على طلب ما فوق، ليس لمجرد أنه فوق، ولكن لأنه حيث المسيح. فالدافع الذي يجب أن يجذب المسيحي لفوق هو الوجود القيامي الذي مركزه هو المسيح القائم. هذا التوصيف المكاني ليس ميتافيزيقيًّا كما قد تفهمه ذهنية المستيكيين الهيلنستيين أو منطق الغنوسيين اللاحقين، فلا يقصد بولس الإشارة إلى أن الله الآب والمسيح ينتميان إلى حيز آخر علوي من الوجود وأن لا صلة لهما بواقع البشر الأدني الشرير الفيزيقي والمادي، ومن ثم على البشر التطلّع الدائم للفكاك من المادة! وإنما التباين المقصود بين ما هو فوق وبين ما على الأرض في هذا السياق هو تباين أخلاقي أبوكاليبتي بين دائرتي الوجود القديم الساقط والوجود الجديد في قيامة المسيح (موازٍ للتباين بين دائرتي الوجود بحسب الجسد وبحسب الروح رو 8: 5 - 6)، باعتبار أن الأرض التي صارت ملعونة منذ السقوط (تك 3: 17)، صارت هي مسرح الخطية، والمسكن الأساسي للطبيعة الفاسدة. أما ما فوق فهو موضع جلوس المسيح في سيادته الإلهية (عن يمين الآب) الذي هو قادر على أن يخلق فيمن يؤمن طبيعة جديدة غير فاسدة.

إن فكرة وجود عالم فوق غير العالم الذي نعيش فيه تحت هي فكرة موجودة وشائعة في النصوص اليهودية الأبوكاليبتية والهيلنسية. ففي الأدب الرابيني، يأتي التباين بين العالم الأعلى والعالم الأدني انعكاسًا تصويريًّا عن الدهر الآتي والدهر الحالي (إسقاطًا بلاغيًّا لأزمنة على أمكنة). وهذا يظهر جليًّا في التلمود: ”كنز آبائي كنوزًا لأسفل.. وأنا أكنز كنوزًا لفوق.. جمع آبائي كنوزًا لهذا العالم.. وأنا أجمع كنوزًا للعالم المستقبلي.“ (b. Hag. 2.1). هكذا بالضبط يبدع بولس في تكييف الكوزمولوجيات الهيلنستية الشائعة تكييفًا مسيحيًّا-يهوديًّا إذ يستخدم لغة مكانية ليقصد دلالات زمنية؛ فما فوق وما على الأرض عند بولس هما دائرتان وجوديتان من وجهة نظر إسخاتولوجية معروفين أيضًا باسم: الدهر الآتي والدهر الحالي. وما يميّز بين المنتمين إلى أي منهما، على الأقل في هذا الزمان، ليس فقط الفارق الأخلاقي والسلوكي (وإن كان النص يحمل دلالة أخلاقية واضحة) ولكن أيضًا فارق الخضوع لـ/التحرر من تسيد قوى الدهر القديم. فقد لاح في المؤمنين فجر القيامة باشتراكهم واتحادهم بقيامة المسيح، فصاروا من الآن مشتركين في قوة الدهر الآتي إذ يحيون حياة المسيح المقام وهم ههنا. لذا، يجب أن تظل كل أهدافهم وطموحاتهم وتوجهاتهم وأخلاقياتهم منصبة ومنكبة على هذه الدائرة الجديدة. فإن كانت أكثر خبرة روحية يروِّج لها الهراطقة هي الصعود للسماء بينما ما زالوا على الأرض، فبولس يؤكد أن الخبرة المسيحية مصدرها المسيح أي تبتدئ من السماء ثم تنبسط على الأرض في حياة المؤمنين اليومية. 

ما دلالة جلوس المسيح عن يمين الآب؟

3: 1 تأتي هذه الصورة من مز 110: 1: ”قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»“، وهي مستخدمة كثيرًا من قِبَل الكنيسة الأولى للتعبير عن مشهد انتصار المسيح وتتويجه بعد قيامته وصعوده. فالجلوس عن يمين الآب عنصرًا أساسيًّا في الكرازة الرسولية المبكّرة kerygma (مر 14: 62؛ أع 2: 33 - 35؛ 5: 31؛ 7: 55 - 56؛ رو 8: 34؛ أف 1: 20؛ عب 1: 3، 13؛ 8: 1؛ 10: 12؛ 12: 2؛ 1بط 3: 22؛ رؤ 3: 21)، كذلك نطق يسوع بنفس هذه الكلمات عن نفسه أمام السنهدريم (مت 26: 64؛ مر 12: 36؛ لو 20: 41 - 44). فالمسيح الآن عن يمين الله يحكم وسيظل يحكم إلى أن يُخضِع كل الأعداء تحته (1كو 15: 25). بمفردات مكانية، ترسم هذه النصوص صورة في أذهان قرّائها: الله يجلس على عرش في السماوات، والمسيح يجلس على عرش بجانبه. تلك الصورة تستحضر بالتأكيد في أي ذهن يهودي ابن الإنسان الذي رآه دانيال وقد احتل بالفعل العرش الآخر (لاحظ العروش الجمع في دا 7: 9 - 14)، وقد تكلم المسيح نفسه عن هذا العرش الآخر، عرشه، وكرسي مجده فقط في مت 19: 28؛ 25: 31، هذان هما الشاهدان الوحيدان عن عرش المسيح خارج سفر الرؤيا (رؤ 3: 21)، وكلاهما يربطان العرش بلقب ”ابن الإنسان“. ومن اللافت للنظر أن ما يميز عرش المسيح عن بقية العروش (لو 22: 30؛ رؤ 4: 4؛ 11: 16؛ 20: 4) هو ملاصقته لعرش الله من اليمين، حتى أن سفر الرؤيا تسمّي عرشًا واحدًا: عرش الله والخروف (رؤ 3: 21؛ 5: 6؛ 7: 17؛ 22: 1، 3). 

لا شك أن الرسل فهموا التعبير أنه تصوير بلاغي، فالله غير المحدود ليس له عرش حرفي وليس له يمين حرفي. فمن المعروف قديمًا، سواء لليهود أو للأمم، أن اليمين رمز للكرامة والقدرة العالية والحماية والاستحسان، كما يتبين كثيرًا من الشعر العبراني (خر 15: 6، 12؛ مز 16: 11؛ 17: 7؛ 20: 6؛ 44: 3؛ 60: 5؛ 73: 23؛ 98: 1؛ 118: 15 - 16)، وأن يجلس أحد عن يمين ملكٍ أرضي، كان هذا يدل على سلطة ومكانة وإقرار خاص من الملك بأهمية من يُجلسه عن يمينه (1مل 2: 19؛ سي 12: 12؛ مر 10: 37). ومن ثم، كان التفكير فيمن يكون ذاك من سيجلس عن يمين الله محط اهتمام كثيف من العديد من الدوائر اليهودية، وقد أثار هذا التساؤل خيفة الرابيين المبكّرين أن يشوِّش على وحدانية الله في أذهان البعض، حتى أنه في التقليد الرابيني، اقترح الرابي عقيبة (ق1 - 2م) أن يكون العرش الثاني للمسيا،  فوبِّخ كثيرًا ودُحض اقتراحه، ولكن ظلّ هناك في التقليد الرابيني منذئذ هرطقة يهودية تؤمن بوجود قوتين في السماء binitarianism،  وربما الهرطقة الكولوسية كانت نسخة مبالغ فيها تنادى بوجود قوات كثيرة في السماء يجب التقرُّب منها (في عبادة الملائكة (2: 18))، ومن ثم، يرد بولس عليهم بتركيزه على أن يسوع المسيح الذي دخل في التاريخ البشري هو وحده بتميُّز وفرادة شديدة وسط كل قوات السماء يجلس عن يمين الله.

 إن الاستخدام المسيحي للمزمور يدل على المجد السامي والتعالي الإلهي والسلطان المطلق الذي ليسوع وسيط الخلاص. هكذا في كولوسي، الإشارة إلى موضع المسيح الحالي عن يمين الله، تدل على مركزيته وعلوه عن كل كائن سماوي آخر بما لا يُقاس، وعلى تسيُّده ورئاسته للعالم السماوي نفسه (الذي هو الدهر الآتي)، فلا سلطان لأي رياسة أو قوة أخرى يقدر أن يمنع تواصل من في المسيح مع الله. فعلى الكولوسيين أن يوجهوا اهتمامهم نحو ما فوق، أي نحو من في المركز. 

إن اختيار بولس للألفاظ في هذين العددين يبدو دقيقًا ومقصودًا وليس صدفةً، إذ يكرر أصداء واضحة من أفكار وشعارات الهراطقة ولكن بتعديلات مسيحية تضبطها. فأغلب الظن أن ما يميز الهراطقة الكولوسيين هو ميلهم نحو ما فوق، ولكن فوقياتهم ليست نحو المسيح، وإنما نحو الكائنات الروحية. فبولس لا يستخف ولا يحقّر من اهتمامهم بالسماويات في المطلق ولكنه يعيد توجيه هذا الاهتمام نحو المسيح، كاشفًا مدى خطأ نقطة انطلاقهم الشرعوية المظهرية في التواصل مع العالم السماوي ومدى خطأ اختيارهم لوجهة مسعاهم إذ يرنون لغير المسيح القائم. فها بولس يقلب الموائد إذ يأخذ من اصطلاحاتهم المكانية ليبرز مركزية المسيح.  

على أي أساس يمكن للمؤمن أن يتوقف عن المساعي الأرضية والاهتمامات الجسدية ويطلب ويهتم بما فوق؟

3: 3 - 4 يشجع بولس متلقي الرسالة أن يتبنوا منهجية غير أرضية في حياتهم، مختلفة عن منطق كل من حولهم، معتمدًا على سببين:

(1)    أنهم ماتوا عن النظام القديم، 

عن الخضوع لقوى شيطانية وأرواح عناصرية، وعن الطموح والتوجه والأخلاق القديمة النابعة من الجسد، أي من الطبيعة الفاسدة.

(2)    وأنهم قاموا حتى وإن كانت حياتهم الجديدة المشترَكَة والمشترِكة مع قيامة المسيح ما زالت مستترة ومُخبَّأة في المسيح وستظل كذلك إلى أن يأتي ويستعلن المسيح الذي هو حياة المؤمنين.

فإن كان الأساس قد وُضع بالفعل: متم وقمتم في زمن الماضي، فيحب أن يكون الاجتهاد والصراع من أجل العيش وفق هذا الأساس مستمر وممتد بطول الحياة على الأرض: اطلبوا واهتموا في زمن المضارع، وهذا على رجاء يقيني بأن المستقبل يحمل مجد المسيح لكل من في المسيح: حينئذ ستُظهرون معه في المجد في زمن المستقبل. هكذا، يتضح أن بولس لا يرى المسيحية هي إثمارًا أوتوماتيكيًّا لكل من آمن واعتمد، أي مات وقام مع المسيح، ولكن المسيحية هي حياة مسؤولة ومجتهدة وممكَّنة فقط بنعمة الله، وموزونة بين فعل ماضٍ واجتهاد مستمر واكتمال نهائي مرتقب في المستقبل. 

ما معنى أن الحياة الجديدة التي للمؤمنين من بعد موتهم مستترة مع المسيح في الله؟ لماذا وعن مَن هي محتجبة؟

3: 3 إن استتار الحياة الجديدة التي للمؤمنين قد يعود لاستتار مصدرها المسيح ولعدم كمالها بسبب وجود عنصر بشري فيها متضح في الأمر المضارع: اطلبوا واهتموا. فبما أن المؤمن يسعى ويجاهد للعيش بحسب الحياة الجديدة القيامية، فهي غير مستعلنة في أوجها أمام أعين من يشاهد حياة وصراعات المؤمنين من الخارج، بل وربما أمام أعين المؤمنين أنفسهم بما أنهم يسقطون كثيرًا ويضعفون كثيرًا ولا يستمتعون بحياة قيامية منتصرة على طول الخط بنسبة 100%. فمن ثم، تبدو هذه الحياة الجديدة، وهذه الجنسية أو المواطنة السماوية (في 3: 20)، مثلها مثل المسيح نفسه،  مستترة ومحتجبة للأعين وغير مبرهنة بالكامل على أرض الواقع، مما يثير تشككات الآخر المحيطين بالمؤمنين بحقيقتها (وبحقيقة المسيح) إن كانت موجودة أصلاً أم توهُّمات وادعاءات تفاؤلية زائفة. لكنّ بولس يؤكد أنها موجودة في الله كما أن المسيح موجود، وإنما مخبّأة مع المسيح في الله، وستسعلن في مجد مجيء الابن ثانيةً. فبولس نفسه، هذا السجين، الذي يراه الرومان يهوديًّا غريب الأطوار، ويراه اليهود أسوأ من أممي، هو في الحقيقة رسول وعبد وخادم الملك يسوع المسيح، وسيتمجد مع المسيح حين يأتي في مجده. كذلك المسيحيون الكولوسيون الذين كانوا قبلاً وثنيين، والذين يرونهم اليهود كلابًا تحاول أن تخطف ميراث إسرائيل، هؤلاء سيتمجدون بمجد عظيم حين يأتي المسيح.

أما بالنسبة لاستتار مصدرها، فربما هناك رابط بالسر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال (كو 1: 26) الذي قد أظهِر للقديسين الذين ماتوا وقاموا المسيح، وما زال ينتظر ليظهر جليًّا أمام الجميع في يوم استعلان المسيح وقديسيه معًا في المجد! وربما هناك رابط مع كو 2: 3 أي أن المسيح مُذّخر ومُخبَّأ فيه جميع كنوز الحكمة والعلم والحياة الجديدة القيامية التي للمؤمنين! هذه اللغة الأبوكاليبتية تضم المسيحيين إلى المسيح من جهة كونه سرًا مكتومًا منذ الأزمنة الأزلية، قد استُعلن للقديسين وما زال مكتومًا عن بقية العالم. فهناك حقيقة مُخبأة، غير مُدركة من قِبَل الذي لم يدخلوا في السر، فتبدو لهم من الخارج سخفًا أو حماقة، ولكنها هي الحقيقة التي تحكم كل شيء. هذه الحقيقة هي المسيح.  فمن ثم، كل من يلتصق بالمسيح، ويتحد به في موته وقيامته، هو يشترك في هذه الحقيقة الخفية عن الأكثرين، وهي لا تتجلى فقط في الرؤى والرحلات إلى السماء، وإنما تتجلى في الحياة اليومية للمؤمنين المستمدة من حياة المسيح، كما لو كانت منفتحة على مورد خفي للحكمة التي يحتاجها المؤمن في مواجهة تحدياته اليومية، وكما لو كانت متصلة بمصدر طاقة خفي، لا يراه أحد ولكن الجميع يرون الطاقة الإلهية مُفعّلة في المسيحيين.

إن العالم لا يرى المسيح بوضوح، وكذلك ولا يرى المسيحيين بوضوح، وأحيانًا لا يرى المسيحيون أنفسهم بوضوح. فالمسيح فوق، وحياة المسيحيين معه فوق، لأن حياتهم هي حياته بالأساس (من هنا تكمّل رسالة أفسس أن الله أجلسنا مع المسيح في السماويات أف 2: 6)، فبالتالي كلاهما مستتر عن عيون من يحيون على الأرض (أي تحت الطبيعة الفاسدة غير المجددة). فإن كان الهراطقة يرغبون في الوصول للمعرفة السرية المخبأة، فالمسيحيون حياتهم كلها مُخبّأة في المسيح الذي هو نفسه مخبأ كل كنوز الحكمة والمعرفة. لم يصف بولس المؤمنين بأنهم ”في الله“ بشكل مباشر سوى هنا وفي 1تس 1: 1 و2تس 1: 1 وهي منطقية إن كان المؤمنون في المسيح، والمسيح في الله، فالمؤمنون في الله مستترين مع المسيح. ولأنها الحياة الجديدة المستترة هي في الله ومع المسيح، فهي في أمان لا خوف عليها ولا يمكن أن تُمس. 

متى ستكتمل وتُستعلن حياة المؤمنين الجديدة؟

3: 4 بما أن الحياة الجديدة مستترة مع المسيح، وبما أنها هي في الأصل حياة المسيح المُقام، بل وبما أن المسيح نفسه هو حياة مؤمنيه، فعندما يظهر في مجيئه الثاني Parousia، فكل من يشاركه حياته سيظهر أيضًا معه في المجد. فما هو خفيّ وسرّي هنا والآن، سيكون علنيًّا حين يُستعلن المسيح، هذا الانكشاف والاستعلان العلني هو الوجه الآخر من الانكتام الأبوكاليبتي (مت 10: 26؛ لو 8: 17؛ 12: 2). وهكذا انتقل من المكان إلى الزمان، أي من فوق إلى الدهر الآتي! وقد عبّر بولس عن هذا المعنى بتركيب قوي ومفاجئ، إذ كتب أن مجد الحياة الجديدة سيُظهر حين يظهر ”المسيح حياتنا“. فالمسيح ليس فقط من نشاركه الحياة الجديدة، ولكنه هو نفسه الحياة، هو حياة كل من يتبعونه ويتحدون به ويكوّنون أعضاء جسده بعدما انتقلوا من الموت إلى الحياة  (يو 5: 24 - 25؛ 11: 25 - 26؛ 1يو 5: 12).

 هذا الظهور يفيد رفع الحجاب الذي يستر ويحجب المسيح ومسيحييه عن العيون، فحينئذ سيسطع المجد أمام الجميع واضعًا نهاية لكل تشكك في مصداقية القيامة. فالظهور هنا هو حدث إعلاني كوني نهائي بمجيء المسيح (مر 13: 26؛ أع 3: 19 - 21؛ 1كو 4: 5؛ 15: 22؛ 1تس 4: 15 - 17؛ 1بط 5: 4؛ 1يو 2: 28؛ 3: 2) يتقابل بشدة مع الاستتار الحالي، فالمسيح الآن في المسيحيين رجاء المجد (كو 1: 27)، ولكن في ذلك اليوم سيكون المسيح فيها هو المجد المحقق في أبهى سناء. سيكون يوم استعلان مجد الله هو يوم استعلان مجد أبناء الله (1 يو 3: 2). ربما بإظهار المؤمنين في المجد يلمّح إلى قيامتهم بأجساد ممجدة (في 3: 20 - 21).  

ما دلالة وصف المسيح بأنه حياتنا؟  وما هو المجد الذي سيُظهر فيه المسيح وستُظهر فيه حياتنا التي هي المسيح؟

3: 4 إن تعريف حياة المسيحيين بأنها هي المسيح، وليس فقط هي مرتبطة أو موصولة بشكل ما بالمسيح، يبدو خطوة جريئة متقدمة عما سبق وقيل في سياق الرسالة الذي امتلاْ بتعبيرات في المسيح ومع المسيح وبالمسيح. هذا التوحُّد اللافت بين المسيح والمسيحيين هنا هو طريقة بولس في التعبير عن مركزية المسيح في حياة المسيحيين (ربما مستوحاة من تعبير المسيح نفسه لبولس حين وحّد نفسه بكنيسته بقوله: شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ أع 9: 4) ، فهو مصدر المعنى والهوية والحياة وكل شيء بالنسبة لهم، ويدل على تمام خضوعهم له كرب.  فإن كان بولس يعرف نفسه أنه عبد يسوع المسيح، فلا شك أنه يرى نفس الشيء في كل المؤمنين. 

في ضوء الخريستولوجيا الآدمية، التي تستجلب أصداء مز 110: 1 إلى هذا النص، يمكن قراءة أن المجد المنتظر في آخر الزمان أن يُظهر فيه المسيح والمسيحيين معًا هو المجد الذي فقده آدم، وأفقد كل نسله إياه (رو 3: 23)، والذي استرده المسيح لكل من فيه (رو 8: 17، 29 - 30؛ 2كو 3: 18؛ في 3: 21؛ 2تس 2: 14؛ عب 2: 10). فمن اللافت للانتباه أن المرات الثلاثة التي وردت فيها تعبير ”مع المسيح“ في هذا المقطع تغطي الثلاثة أزمنة: قمتم في الماضي معه، حياتكم مستترة الآن في الحاضر مع المسيح، وستتمجدون في المستقبل مع المسيح. وهذا هو رجاء المؤمنين برغم من استتار حياتهم الراهنة: أن المجد النهائي الذي ابتدئ فيهم بالفعل سيكتمل فيهم علنًا بدليل وبرهان اكتماله في المسيح.   

 

صلاة من كو 3: 1 - 4

يا يسوع المسيح حياتنا.. يا أيها الجالس عن يمين الله.. بإنسانيتنا..

نشكرك لأن بقيامتك أقمتنا من مواتنا وفسادنا وركودنا إلى جدة الحياة فيك

نصلي أن تعيننا أن نتبني وجهة نظر سماوية وعقلية روحية وأن نطور اهتمامًا شغوفًا توًّاقًا لما فوق

لدائرة الوجود في ملكوتك، حيث تجلس ملكًا متوّجًا مكرمًّا عن يمين أبيك..

أنت صليت لله ألا يأخذنا من العالم بل أن يحفظنا فيه من الشرير

وقد أتيت إلى عالمنا واختبرت مأساته بنفسك وتعلم جيدًا صعوبة مقاومة الانجذاب لما هو تحت

وتدرك الضغوط اليومية التي تضغط على أحبتك لأسفل..

نعم، حياتنا الجديدة فيك لا تزال تبرعم ببطء..

حتى أننا نكاد نتشكك في مدى حقيقة إن كنا متنا وقمنا معك كلما تواجهنا مع فسادنا القديم المستمر

ولكن هبنا أن نثق أن حياتنا الجديدة حقيقة واقعة وموجودة بالفعل على مسطح الإيمان

وإن كانت مختبئة ومختفية عن أعين المحيطين بنا، بل وأحيانًا عن أعيننا..

ولكنك أنت أيضًا يا يسوع لا زلت مستترًا عن العيون في الله..

أنت هو حياتنا.. فاملأنا ثقةً وطمانًا ورجاءًا أنه سيأتي يوم حين تستعلن فيه أنت بمجدٍ عظيم

حينئذ سنظهر ونستعلن نحن أيضًا معك في المجد.. وسيتبين لنا وللجميع أن إيماننا كان حقًّا وأننا تجددنا فيك

ولكن إلى أن تأتي، نطلب أن رجاءنا يظل مشتعلاً

وأن حياتنا الجديدة لا تكف عن النمو تحت السطح وإن لم ترها عين..

إلى أن تأتي وتُخرج حبة حنطتنا المائتة في قلب الخفاء  إلى النور فرعًا مرتفعًا يسبحك.. آمين.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.